تاريخ النقود: رحلة عبر الزمن

المال هو أداة أساسية لتبادل السلع والخدمات بين البشر. ومثل كل أداة إخترعها الإنسان، فإن المال أيضًا تطوّر عبر الزمن واختلفت أشكاله وصفاته، حتى وصل الى الشكل المعروف لنا اليوم.

التطور: من المقايضة إلى العملات المعدنية

قبل ظهور العملة الموحدة، انخرطت المجتمعات البشرية في أنظمة المقايضة، وتبادلت السلع والخدمات بشكل مباشر: “أنت تعطيني القمح، وأنا اعطيك الزيت”.

محدودية الخيارات المتاحة للتبادل كانت حافزًا أساسيًا لاختراع أداة تسمح لنا بحفظ القيمة التي اعطيناها لشخص ما، من أجل استبدالها لاحقا بمنتج أو خدمة نحتاجها.

كانت الأصداف وأسنان الحيوانات وقطع المعدن أشكال مبكرة للعملة في هذا الاقتصاد البدائي.  ومع ذلك، فقد شكل إدخال العملات المعدنية المصكوكة، وخاصة الذهب والفضة، نقطة تحول مهمة.

أحدثت العملات المعدنية ثورة في التجارة،  فقد ألغت الحاجة لوزن وفحص نقاء المعدن عند كل معاملة، مما أدى إلى تبسيط المعاملات التجارية.

بالإضافة إلى ذلك، أسست العملات المعدنية لبداية قبول نوع موحّد من المال على نطاق واسع.

ظهور النقود الورقية وشهادات الذهب

بعد أن سادت النقود الذهبية، ظهرت النقود الورقية لأول مرة في الصين خلال القرن الحادي عشر، ووصلت تدريجياً إلى أوروبا بحلول القرن السابع عشر.

الفكرة كانت أن يتم حفظ الذهب عند طرف موثوق، وان يتم إصدار شهادات ملكية مقابلها، بحيث يتم تداول هذه الشهادات بدل تداول الذهب نفسه.

تداول الشهادات كان بديلاً جيدا في الظاهر، فهي أسهل للنقل والتجزئة ، فبأمكاننا أن نصدر شهادة بكيلوغرام ذهب، وأخرى بغرام واحد أو حتى أقل.

ظهرت شهادات الذهب كبدائل للذهب المادي، حيث وفرت وسيلة ملائمة وأكثر سهولة لإجراء المعاملات، وأدى إنشاء مؤسسات مثل بنك إنجلترا عام 1694 إلى إطفاء الطابع الرسمي على الانتقال إلى العملة الورقية.

هذه الشهادات، المدعومة باحتياطيات ذهب ملموسة، تمثل وعدًا بالاسترداد عند الطلب، وكان بإمكان صاحب الشهادة أن يذهب الى من أصدرها ليحصل على ذهب ملموس مقابلها، مما أزال الفجوة بين العملات الذهبية والورقية.

أقدم عملة ورقية في العالم. من عهد سلالة سونغ جياوزي

المعيار الذهبي وبداية هيمنة الدولار

سيطر المعيار الذهبي، وهو النظام النقدي يربط قيمة العملة الورقية باحتياطيات الذهب، على الاقتصاديات العالمية لقرون.  ومع ذلك، فقد دخل عصر جديد في عام 1944 باتفاقية بريتون وودز التي تخلت عن المعيار الذهبي المباشر لصالح الدولار.

الإتفاقية التي عُقدت بعد الحرب العالمية – وكانت أمريكا حينها مهيمنة سياسيًا ومستحوذة كذلك على ثلثي احتياطي الذهب العالمي – نصّت بجوهرها على أن تتم تغطية عملات العالم بالدولار ,على أن تتم تغطية الدولار نفسه بالذهب وأن يكون بإمكان أي شخص أن يستبدل الدولارات بالذهب من البنك الفيدرالي الأمريكي.

كانت قيمة الإستبدال وفق الإتفاقية تعادل أونصة ذهب مقابل كل 35 دولار!

صدمة “نيكسون” وبداية عصر “الفيات”

لم تلبث الإتفاقية كثيرًا حتى بدأت الشكوك تراود الجميع بأن أمريكا تطبع دولارات بكميات أكبر من الذهب الموجود لديها. كمية الإنفاق الأمريكي في الخمسينيات والستينيات جعلت الأمر واضحًا : أمريكا لا تملك ذهب مقابل كل الدولارات التي طبعتها ومن أراد ذهبًا مقابل دولاراته عليه أن يسرع لاسترداداه.

نتيجة لحالة الهلع هذه أصدر الرئيس الأمريكي نيكسون -في عام 1971- قراره بعدم السماح باستبدال الدولار بالذهب من البنك المركزي، معلنا أن الدولار أصبح عملة ورقية غير مغطاه بالذهب – ولا بغيره!- .

قام نيكسون باتخاذ قرارات صارمة بتجميد الاجور والأسعار حتى يحافظ على قيمة الدولار وينجيه من هذه الصدمة العنيفة.

العملة الورقية “الفيات”

لا تستمد العملة الورقية قيمتها من أصل يغطيها ولكن من مرسوم حكومي.

وبما أنه لا يوجد ما يحد من كمية طباعتها وإنتاجها، كان من الضروري إنشاء جهة منظِمة لطباعة المال، وكان هذا دور البنوك المركزية.

تمنح العملة الورقية البنوك المركزية والحكومات سيطرة لا مثيل لها على السياسة الاقتصادية، مما يسمح لهم بتنظيم المعروض النقدي وإدارة التضخم.  ومع ذلك، فإن المصالح السياسة للمتنفذين والمسيطرين على انتاج العملة، تقودهم دومًا الى اتباع سياسات تؤثر سلبا على قيمة العملة على المدى الطويل في مقابل مكاسب قصيرة المدى.

مصطلح العملة الورقية “فيات”، مشتق من اللاتينية “فليَكٌن – أو كن فيكون” ( – let it be -Fiat)، لتمثيل عملة يتم انتاجها “من الهواء” مدعومةً فقط بالثقة في السلطة المصدرة، وبالتالي فإن وجود حكومة ضعيفة أو فاسدة يعني بطبيعة الحال إنعدام الثقة بالعملة.

المصير المحتوم للـ”فيات”

تحاول البنوك المركزية عبر اجراءات مركبة أن تتحكم بكمية العملة، لكن على المدى الطويل تكون النتيجة دائمًا طباعة أموال جديدة وزيادة معروض المال، مما يؤدي الى تراجع قيمة العملة وقدرتها الشرائية وارتفاع مستمر في الأسعار.

التضخم وارتفاع الاسعار أصبحا أمرًا حتميًا في ظل هذا النظام، لكن الأمر في أحيان عديدة فاق الحد المعقول ووصل ببعض الدول الى خسارة معظم قيمة عملتها وحتى إنهيارها بالكامل، ومنها على سبيل المثال لا الحصر : الأرجنتين، مصر، تركيا، لبنان، سوريا، السودان، فنزويلا وزيمبابوي وغيرها.

الدولار الأمريكي – تراجع مستمر

قد يخيل للبعض أن إنهيار العملة يحدث في الدول المتأزمة فقط، مع أن المعطيات تشير أن جميع الدول الاخرى تسير نحو المصير نفسه، ولكن بشكل أبطئ، حيث أن الأزمات السياسية تسرّع من إنهيار العملات.

منذ بداية فصل الدولار عن الذهب خسر الدولار 96% من قيمته، وهو مستمر حتى الآن بالتراجع لنصف قيمته كل عشر سنوات!

تراجع القدرة الشرائية للدولار عبر السنين

البيتكوين – عملة جديدة ونظام إقتصادي جديد

في ظل التراجع المستمر للعملات الحكومية، وفي ظل العديد من الأزمات الاقتصادية التي كان المسبب الرئيسي لها هو محاولة البنوك المركزية لضبط معروض المال بطرق مختلفة مثل التلاعب بأسعار الفائدة وغيرها من السياسات المالية، ظهرت الحاجة لنظام مالي جديد.

البيتكوين باختصار هو برنامج حاسوبي لإدارة تحويلات من عملة البيتكوين الموجودة داخل البرنامج.

الميزة الأكبر لهذا البرنامج هو أنه “غير مركزي”، بمعنى أنه لا يعمل على حاسوب مركزي يتبع لشركة خاصة تقوم بإدارة البرنامج، بل يستعيض عن هذامن خلال شبكة ضخمة من الحواسيب التي يتبع كل منها لجهة مختلفة، وبهذا يمنع إنفراد أي جهة منفردة من التحكم بقوانين البيتكوين وبروتوكولاته.

يضمن البيتكوين من خلال تكنولوجيا البلوكتشين التي يعمل بها أن تبقى كمية البيتكوين محدودة وأن لا يكون في قدرة أي شخص أو جهة أن يتلاعب في كمياتها أو سجل تحويلاتها، كما أنه يقدم مزايا عديدة تجعل من عملة البيتكوين الأداة الأمثل للمال في عصرنا،من خلال مميزات تجمع بين مزايا الذهب ومزايا اخرى ومنها :

  • سهولة في النقل حول العالم الكترونيًا.
  • التجزئة الدقيقة ( يمكن تجزيء البيتكوين الواحد الى مئة مليون وِحدة).
  • أمان غير مسبوق وإستحالة التزوير ( بفضل تكنولوجيا البلوكتشين).
  • كمية محدودة تجعله مشابهًا للذهب في ندرته وفي حفاظه على قيمتة على المدى البعيد.
  • شبكة مدفوعات عالمية محايدة، تعمل باستمرار ولا تتبع لأي دولة ولا تتأثر بالتغييرات الجيوسياسية .
  • كمية محدودة ومعروفة من العملة وسجل معاملات شفاف.

فهم هذه المزايا وفهم قدرة البيتكوين على تقديم الضمانات يحتاج لفهم معمق في تكنولوجيا البلوكتشين التي يعمل بها، ولكن إن أدركنا أن البيتكوين فعلا يضمن هذه الأمور فهو بهذا يؤسس بهذا لنظام مالي جديد ويفوق كونه مجرد عملة عادية، مما يبشر بكون البيتكوين لاعبًا أساسيا في اقتصاد المستقبل.

خاتمة

تؤكد هذه المقالة أن رحلة النقود لم تنتهِ بعد، وأن البيتكوين هو حلقة طبيعية ضمن سلسلة التطورات التي يشهدها المال عبر العصور، وأننا نشهد تحولات جذرية قد تغير شكل التعاملات المالية في المستقبل.

فهم تاريخ النقود وتطوره يساعدنا على فهم التحديات الحالية والفرص المتاحة في عالم يتجه نحو المزيد من الرقمنة واللامركزية.

 

Previous Article

مستقبل العملات الرقمية: توقعات واعدة لعام 2025

Next Article

البيتكوين - ثورة في عالم المال

Write a Comment

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *