بعد أن استعرضنا تاريخ النقود وتطورها من الأشكال البدائية إلى صيغها الحالية، ننتقل الآن إلى الحديث عن أحدث فصول هذه القصة: البيتكوين (Bitcoin)! هذه الأصول الرقمية التي ظهرت في بداية الألفية الجديدة، غيرت قواعد اللعبة في عالم المال، وأثارت نقاشات حادة حول مستقبل النقود.
الحاجة أم الإختراع
في ظل النظام الإقتصادي المحكوم بالبنوك المركزية القادرة على طباعة العملة بدون أي غطاء حقيقي، نشبت العديد من الأزمات والتحديات الإقتصادية، وكان لا بد من إيجاد بديل، وإنشاء عملة لا يمكن التلاعب بكمياتها من قبل أي طرف كان.
في أكتوبر 2008، تم نشر الورقة البيضاء لعملة البيتكوين من قبل فرد أو مجموعة مجهولة الهوية تُعرف باسم ساتوشي ناكاموتو. وصفت هذه الوثيقة الرائدة مفهومًا ثوريًا: نظام نقدي إلكتروني يعمل من نظير إلى نظير. وقد وصفت كيفية عمل البيتكوين بدون الحاجة إلى وسطاء مثل البنوك، أو جهة مُصدرة مثل البنوك المركزية، مع ضمان عمل البيتكوين وفق قوانين ثابتة بفضل تقنية “البلوكتشين” التي سنتطرق لها لاحقًا بالتفصيل. وضع هذا الاقتراح المبتكر الأساس لأول عملة مشفرة في العالم، مما مهد الطريق لعصر جديد في التمويل الرقمي.
السجل الرقمي المفتوح
في عالم رقمي وسريع، أصبحت الأوراق والمعادن أقل أهمية في المعاملات المالية، فمعظم المعاملات تتم بشكل رقمي سواء كان بحوالات بنكية أو ببطاقات الدفع أو تطبيقات المدفوعات المختلفة.
وإذا فكرنا بالأمر، فإن وجود سجل رقمي لإدارة حسابات وأرصدة المستخدمين وتحويلاتهم يعتبر عملة بحد ذاته! فالمال في جوهره هو أداة للتبادل، وما دامت السجلات توثق كل عمليات التبادل بشفافية ووضوح وتثبت رصيد كل شخص، فبإمكان هذه السجلات أن تحل مكان العملة الملموسة.
اللامركزية هي الحل
وجود جهة مسؤولة عن انشاء وإدارة سجلات رقمية لأرصدة المستخدمين يشّكل مشكلة بحد ذاته، إذ سيكون بإمكان هذه الجهة أن تتلاعب بمعروض العملة مستقبلا، كأن تضيف كميات جديدة وأرصدة جديدة لنفسها أو لغيرها من المتنفذين، كما وسيكون بالإمكان القضاء على هذه السجلات من خلال الهجوم على الجهة المصدرة أوإيقافها عن العمل.
لذلك، وجب أن تتم الإستعاضة عن وجود حاسوب رئيسي مركزي يدير التحويلات ويحفظ السجلات، بشبكة موزعة وغير مركزية من الحواسيب التي تعمل معًا من أجل هذا الهدف بحيث لا تتركز المسؤوليات أو الصلاحيات عند جهة مركزية بذاتها دون غيرها.

البيتكوين – سجل مفتوح غير مركزي
البيتكوين هي أشهر وأقدم عملة مشفرة، وقد تم إطلاقها في عام 2009 بعد أن نشر “ساتوشي ناكاموتو” ملف الورقة البيضاء الذي يشرح عملها في 2008.
البيتكوين في جوهره هو برنامج حاسوبي لإدارة سجلات ومراقبة أرصدة مستخدمي البرنامج من عملة البيتكوين الموجودة داخل البرنامج.
يستخدم البيتكوين التشفير لتأمين المعاملات ولضمان سلامة السجلات ومنع التزوير. وعلى عكس العملات الورقية، لا يتم إصدار العملات من قبل أي حكومة أو بنك مركزي أو جهة مسؤولة عن البرنامج، بل يتم إنشاؤها وتداولها عبر شبكة موزعة عالميا من الحواسيب التي تتعاون معًا من أجل إدارة وتشغبل البرنامج.
تعمل الشبكة بطريقة “نظير إلى نظير” (peer-to-peer) أي أن كل أفراد الشبكة هم نظراء يملكون نفس المسؤوليات والصلاحيات، مما يمنع جهة معينة من الإنفراد بالقرارات ومن قدرتها على تغيير أي قانون من قوانين البرنامج التي وضعها “ساتوشي”، كما أن هذا التوجه يحصّن الشبكة ضد الهجومات،إذ أنه يمنع أيضا وجود حاسوب معيّن بحيث يمكن لمهاجمته أو إيقافه أن يوقف شبكة البيتكوين، مما يجعل العملة أيضا محصنة ضد الإختراقات.
هذه الشبكة من النظراء مفتوحة للجميع، ويمكن لأي شخص أن يشتري الأجهزة الملائمة وأن ينضم لشبكة إدارة البيتكوين.
تعرف هذه الشبكة بإسم شبكة المعدنين، إذ يحصل أعضاء الشبكة على بيتكوينات جديدة ( وفق جدول محدد وكميات محددة) مقابل عملهم، بطريقة مشابهة للمكافآت التي يحصل عليها معدّنو الذهب عند بذلهم للجهد تنقيبَا عن المعدن الثمين في المناجم، ومن هنا جاء مصطلح تعدين البيتكوين (Bitcoin Mining).
البلوكتشين – أساس الثورة
يعتمد البيتكوين على تقنية تدعى البلوكتشين في إدارة السجل الرقمي اللامركزي.
تمكن هذه التكنولوجيا من حفظ جميع المعاملات التي تتم على العملة بطريقة تجعل من الصعب للغاية تعديل البيانات الموجودة فيها.
هذه التكنولوجيا هي أساس عمل البيتكوين، فهي التي تمكن أعضاء الشبكة من التعاون بينهم على إدارة سجل التحويلات بشكل شفاف وواضح ودون خلق أي تضاربات بين الأعضاء، وبدونها يكون إنشاء شبكة نظراء مفتوحة وبدون مسؤول أمرا صعبا للغاية إن لم يكن مستحيلا تقنيا.
فهم تكنولوجيا البلوكتشين مهم جدًا من أجل فهم قوّة البيتكوين وقدرته في الحفاظ على شفافية السجلات وعلى ثبات القوانين المتفق عليها للعملة دون إتاحة المجال لأي جهة أن تغييرها، وكل من يدرس هذه التكنولوجيا يوقن أننا أمام عملة قادرة على تغيير المشهد الإقتصادي في العالم.

البيتكوين والعملات المشفرة – نظرة نحو المستقبل
قام البيتكوين بإنشاء ثورة في العالم الرقمي دفعت بالعديد من الشركات والأشخاص بمحاولة اختراع عملات رقمية جديدة. بالإضافة إلى بيتكوين، هناك اليوم مئات الآلاف من العملات المشفرة الأخرى، ولكل منها خصائصها واستخداماتها الخاصة. بعض هذه العملات مصممة للاستخدامات اليومية، بينما البعض الآخر يستخدم في تطبيقات أكثر تخصصًا، مثل التمويل اللامركزي (DeFi) والعقود الذكية أو حتى الألعاب.
على الرغم من التحديات التي تواجهها، فإن البيتكوين والعملات المشفرة تستمر في جذب اهتمام كبير من المستثمرين والشركات والحكومات. يعتقد الكثيرون أن العملات المشفرة ستلعب دورًا مهمًا في مستقبل المال والمالية، وقد تؤدي إلى تغيير جذري في الطريقة التي نفكر بها في القيمة والتبادل.
البيتكوين بشكل خاص بات يعتبر اليوم أصلا ماديا معترف به من قبل العديد من الجهات المالية الكبرى، وحتى من بعض الدول، ومع الطلب المتزايد عليه ومع كميته المحدودة ، يرجح الخبراء أن يصل سعره الى ملايين الدولارات للبيتكوين الواحد خلال العقود القريبة.