ما هي آليات الإجماع ولماذا نحتاجها؟
آلية الإجماع هي الطريقة التي تستخدمها سلاسل الكتل (البلوكتشين) للتحقق من صحة المعاملات وضمان دقة البيانات المخزنة على الشبكة دون الحاجة إلى سلطة مركزية.
في الأنظمة المركزية، تتولى جهة إدارية واحدة مسؤولية تحديث وصيانة قاعدة البيانات، مما يمنحها السيطرة المطلقة على صحة البيانات. أما في البلوكشين، فالأمر مختلف تمامًا؛ حيث تتم إدارة الشبكة بواسطة آلاف العقد (Nodes) المنتشرة حول العالم، مما يتطلب آلية عادلة وموثوقة لضمان صحة جميع المعاملات واتفاق جميع المشاركين عليها.
هذه الحاجة أدت إلى ظهور آليات الإجماع، وهي خوارزميات أو قواعد تضمن نزاهة البيانات والمعاملات المسجلة على البلوكشين. هناك عدة أنواع من آليات الإجماع، ولكل منها مبادئها الخاصة. تشمل أبرز هذه الآليات: إثبات العمل (PoW)، وإثبات الحصة (PoS)، وإثبات التاريخ (PoH).
ما هو إثبات العمل (PoW)؟
إثبات العمل هو آلية الإجماع الأصلية التي تم استخدامها في البلوكتشين، وهو النموذج الذي يؤمن شبكة البيتكوين.
يُطلق عليه “إثبات العمل” لأنه يجب إثبات أن العمل قد أُنجز للتحقق من صحة المعاملات. في هذا النموذج، تتنافس أجهزة الحواسيب (المعدّنون – Miners) لحل ألغاز رياضية معقدة. أول حاسوب يحل اللغز يحصل على حق تحديث البلوكشين بالمعاملات الجديدة، ويتم مكافأته بعملات رقمية.
إثبات العمل يتطلب طاقة هائلة بسبب العمليات الحسابية العشوائية التي لا تخدم سوى تأمين الشبكة. لهذا السبب، هناك مخاوف تتعلق بالاستدامة البيئية، خصوصًا فيما يتعلق بالبيتكوين.
لكن هذه المخاوف دفعت إلى تطوير آليات جديدة مثل إثبات الحصة (PoS)، الذي سنتحدث عنه لاحقًا.
ما هو التعدين؟
التعدين هو الطريقة التي تُستخدم بها آلية إثبات العمل لإنشاء عملات جديدة والتحقق من المعاملات.
يقوم المُعدِّن بحل ألغاز رياضية للتحقق من المعاملات على البلوكشين، وفي المقابل، يحصل على مكافآت عبارة عن عملات مشفرة جديدة.
جميع المعدنين في الشبكة يتسابقون لإيجاد “التجزئة” (Hash) الصحيحة، وهو رقم مكون من 64 خانة. أول من يعثر عليها يقوم بتحديث البلوكشين ويحصل على المكافأة.
البيتكوين هو أشهر مثال للعملات القابلة للتعدين. لاحظ أن أي عملة رقمية لا تستخدم إثبات العمل لا يمكن تعدينها. كما أن الإيثيريوم لم يعد قابلاً للتعدين منذ أن انتقل إلى آلية إثبات الحصة في عملية تُعرف بـ”الدمج” (The Merge).
ما هو إثبات الحصة (PoS)؟
إثبات الحصة هو آلية إجماع تعتمد على قيام المستخدمين بالمشاركة (Staking) بجزء من أصولهم الرقمية ليصبحوا مدققين (Validators) يتحققون من المعاملات.
في هذا النظام، لا يوجد تعدين، بل يقوم المشاركون بحجز جزء من عملاتهم المشفرة كضمان لضمان صحة المعاملات. إذا حاول أحدهم التلاعب أو إرسال بيانات خاطئة، فإنه يفقد جزءًا من حصته في العملية، مما يجعل الغش مكلفًا وغير مجدٍ.
كلما زادت كمية العملات التي يتم وضعها في الحجز، زادت فرص المدقق في الحصول على المكافآت، حيث يتم توزيع الأرباح حسب نسبة الحصة المحتجزة.
لحماية الشبكة من الجهات الخبيثة، تستخدم بلوكشينات إثبات الحصة آليات مثل “القطع” (Slashing)، حيث يُخصم جزء من رصيد المدقق إذا حاول إرسال معاملات خاطئة.
ما الفرق بين إثبات العمل وإثبات الحصة؟
إثبات الحصة يتميز بعدم الحاجة إلى التعدين، مما يعني استهلاكًا أقل للطاقة مقارنة بإثبات العمل. هذه الميزة جعلت إثبات الحصة خيارًا أكثر كفاءة واستدامة بيئيًا، لكنه ليس خاليًا من العيوب؛ حيث يكون أكثر مركزية لأن المشاركين الذين يمتلكون كميات كبيرة من العملات الرقمية يمكنهم التحكم في الشبكة بشكل أكبر.
ملاحظة: يجب الانتباه إلى أن بعض البروتوكولات تستخدم مفهوم “Staking” كأداة لتقييد العرض وزيادة سعر التوكنات بشكل مصطنع، وهو أمر يجب الحذر منه.
ما هو إثبات التاريخ (PoH)؟
إثبات التاريخ هو آلية إجماع تضيف عنصر الوقت لتسريع المعاملات، وهو ما تستخدمه شبكة سولانا (Solana).
المشكلة التي تواجه معظم شبكات البلوكشين هي أنها تحتاج إلى انتظار موافقة جميع المدققين قبل تأكيد المعاملة. إثبات التاريخ يحل هذه المشكلة من خلال إدراج “الطابع الزمني” داخل البلوكشين نفسه، مما يجعل جميع العقد متزامنة ويمكنها التحقق من ترتيب المعاملات دون الحاجة إلى انتظار الشبكة بأكملها.
بدلاً من انتظار تأكيدات المدققين قبل إضافة البلوك الجديد إلى البلوكشين، يتم إدراج الطابع الزمني للمعاملات منذ البداية، مما يسرع العمليات بشكل ملحوظ.
كيف يعمل إثبات التاريخ؟
لنفترض أنك أرسلت رسالة لشخص ما بالبريد العادي. في اليوم التالي، قمت بتغيير رأيك وأرسلت رسالة أخرى. بسبب التأخير في وصول الرسائل، ربما تصل الرسالة الثانية قبل الأولى، مما يسبب التباسًا.
إضافة الطابع الزمني (Timestamp) في إثبات التاريخ يمنع هذا الالتباس، حيث يتم تسجيل توقيت كل معاملة بوضوح، مما يسهل ترتيبها لاحقًا.
شبكة Solana تستفيد من هذه التقنية لضمان الترتيب الدقيق للمعاملات، مما يعزز من سرعة وكفاءة شبكتها مقارنة بالبدائل الأخرى.
إثبات العمل: الأمان واللامركزية الحقيقية
على الرغم من العيوب الظاهرة لإثبات العمل (PoW) مثل استهلاك الطاقة العالي، فإنه لا يزال الطريقة الأكثر أمانًا والوحيدة التي تضمن اللامركزية الحقيقية. في آليات الإجماع الأخرى، حيث لا تكون هناك حاجة لأجهزة كمبيوتر قوية، يمكن لأعضاء الشبكة استئجار خوادم من مزودي خدمات الحوسبة السحابية الكبار مثل Google، Amazon، وMicrosoft. يؤدي ذلك إلى تمركز معظم العقد تحت سيطرة هذه الشركات، مما يتناقض تمامًا مع فكرة اللامركزية.
لهذا السبب، يُعتبر إثبات العمل، وخاصة في شبكة البيتكوين، البديل الحقيقي الوحيد للذهب الرقمي. في حين أن الآليات الأخرى قد توفر مزايا في السرعة وكفاءة استهلاك الطاقة، إلا أنها لا تزال تُعتبر أكثر مركزية مقارنةً بالبيتكوين
التوازن بين الأمان، اللامركزية، والكفاءة
من خلال دراسة آليات الإجماع المختلفة، يمكننا فهم كيف تسعى كل آلية لتحقيق التوازن بين الأمان، اللامركزية، وقابلية التوسع، وهو العامل الأساسي في تطور تقنية البلوكشين. مع استمرار الابتكار في هذا المجال، قد تظهر آليات جديدة تحسن من الأداء والأمان، مما يجعل مستقبل العملات الرقمية أكثر تطورًا واستدامة.