البلوكتشين – السحر الذي جعل البيتكوين ممكنًا

“التكنولوجيا المتقدمة جدًا، لا يمكن تمييزها عن السحر!” – آرثر سي كلارك

تحدثنا عن البيتكوين وعن الأسس التي يعمل بها، ورأينا أن ما يميز البيتكوين هو الوعد بكونه أول عملة في تاريخ البشرية تعمل بقوانين ثابتة وبروتوكولات راسخة، لا تتأثر بأهواء ومصالح جهة مركزية تنفرد بسلطة إنتاج المال دون غيرها من البشر.

هذا الوعد هو ما يعطي البيتكوين قيمته مقابل أي عملة أخرى. ولكن، كيف للبيتكوين أن يفي بهذا الوعد؟ وهل حقًا هو منيع عن التلاعب به أو إيقافه؟ أليس في النهاية برنامج حاسوبي قابل للتغيير والتبديل والإيقاف؟ وكيف لتكنولوجيا البلوكتشين التي يعمل بها أن تقدم هذه الضمانات؟

قبل البيتكوين، كانت البرامج على الانترنت تندرج الى نموذجين رئيسيين لتبادل البيانات :

  1. الخادم والعميل(Client – Server) : في هذا النوع من البرامج يكون هنالك حاسوب رئيسي “خادم” يتبع للشركة المنتجة للبرنامج. يقوم “الخادم” بتشغيل البنية التحتية للبرنامج، وبشبك العملاء بالبرنامج أو ببعضهم البعض عبر تلقي وإرسال البيانات منهم ونقلها من عميل لآخر من خلاله. يعتبر هذا النوع من البرامج شائعًا جدًا، ومعظم التطبيقات التي نستخدمها يوميًا تعمل بهذه الطريقة مثل واتساب وانستغرام وغيرها.
  2. النظير للنظير (Peer to Peer (P2P): في هذا النوع من البرامج لا يوجد خادم مركزي، بل يتصل النظراء بين بعضهم ويتبادلون المعلومات بشكل مباشر. هذا النوع من البرامج كان رائجًا لمشاركة الملفات، إذ أنه يتيح للمستخدمين مشاركة الملفات مباشرة مع بعضهم البعض، دون الاعتماد على خادم مركزي، مما يجعل استجابة البرنامج أكثر سرعة كون التحويلات لا تمر كلها من نقطة واحدة. بعض أشهر برامج مشاركة الملفات:BitTorrent، Limewire و Kazaa. برنامج شهير آخر عمل بهذه التقنية هو برنامج Skype للمكالمات الصوتية والمرئية الذي حاز انشارا كبيرا عند إصداره.

القيمة والمعلومة، والحاجة الى البلوكتشين

رغم كون نظام الـ Peer to Peer نظامًا لا مركزيا -مما يجعله مرشحا جيدا لبناء عملة بدون سلطة مركزية- الّا أن كونه صالحا لتبادل الملفات لا يجعله صالحًا لتبادل العملات! فعند إرسال ملف معيّن عبر الانترنت يبقى الملف موجودًا عند الجهة الـمُرسِلة، وما يتم إرساله بالفعل هو نسخة من الملف المُرسَل.

إذا حاولنا إرسال المال بهذه الطريقة فإن الأموال ستتضاعف مع كل تحويل! وسيكون بإمكان المُرسل إرسال نفس المبلغ لعدّة أشخاص دون أن يتأثر رصيده! وهذا أمر غير وارد عند الحديث عن المال وعن تحويلات العملة.

لذلك، فإن هذا النظام بصيغته المتعارف عليها يمكن أن يستخدم لنقل المعلومة فقط، لكنه لا يصلح لنقل القيمة!

مع وجود هاذا النقص كان لا بد من ايجاد صيغة للتحقق من صحة التحويلات ومنع صرف نفس المبلغ أكثر من مرّة.

الحل الأنسب هو إيجاد سجل رقمي مفتوح وشفاف يحتوي على تفاصيل كل التحويلات التي تمت في الشبكة، وحفظ نسخة منه عند كل نظير في الشبكة، وعند محاولة أي شخص للقيام بتحويلة معينة، يقوم النظراء بالتدقيق بالسجل وبالتحقق من رصيد المُرسل قبل أن تتم المصادقة على تحويلته وإضافتها للسجل في جميع النُسَخ.

المشكلة في سجل كهذا أنه صعب التدقيق عندما يصبح السجل ضخمًا، فبعد أن تتم مليارات التحويلات في الشبكة، تصبح عملية التحقق ومقارنة السجلات عملية مضنية جدًا. تخيل ملفّا يحتوي على كمية هائلة من التحويلات وموزع بنسخ مختلفة على عشرات آلاف النظراء، كيف لنا أن نتحقق أن أي من النسخ لم يتم تزويرها ولو بتحويلة واحدة؟ وكيف سنقارن هذ المحتوى الضخم ونتحقق منه؟ مع العلم أننا سنحتاج لإعادة التدقيق مع كل تحويلة جديدية تضاف للسجل.

سلسلة الكتل (Block-chain)

بدل من أن يتم حفظ السجل كملف واحد وكتله واحدة، يتم تقسيم السجل الى كتل صغيرة، وربطها معًا كسلسلة من الكتل باستخدام شيفرات معقدة متعلقة بمحتوى الكتل ذاتها، بحيث يؤدي أي تزوير في أي كتلة الى فك إرتباط هذه الكتلة بالكتلة التالية لها في السلسلة، وبالتالي يصبح كشف التزويرات أمرا أسهل بكثير.

محاولة إعادة ربط كتلة مزورة، تحتاج الى تعديل محتوى الكتلة التالية لها أيضًا وإعادة حساب عمليات التشفير المعقدة من جديد من أجل إعادة الربط، ولكن هذا التعديل سيفك ارتباط الكتلة الثانية بالكتلة التي تليها، وسيتطلب إعادة تشفير جديدة للمحتوى المعدّل لديها أيضًا وهكذا، مما يتطلب من المزوّر أن يقوم بإعادة تشفير السلسلة كلها! وهذه مهمة مستحيلة! فالوقت الذي يستغرقه المزوّر لتغيير محتوى كتلة هو نفس الوقت تقريبا الذي تحتاجه الشبكة لإضافة كتلة جديدة للسجل، مما يعني أن المزور سيكون متأخرًا دائما ولن يستطيع إنتاج كتلة مزورة مترابطة.

من الجدير بالذكر أنه حتى لو تمكن المزور من إنتاج هذه السلسلة المستحيلة، فهو الآن أمام تحدي مستحيل آخر، وهو اختراق حواسيب كل النظراء معًا في نفس اللحظة وتبديل السلسلة الأصلية بالمزورة عند كلٍ منهم من أجل خلق حالة إجماع على السلسلة الجديدة في الشبكة دون إثارة أي حالة من عدم التوافق بين ملفات النظراء.

التعدين

يعمل النظراء في شبكة البيتكوين -وهم اليوم بعشرات الآلاف- على تأمين هذه الشبكة الضخمة من السجلات المترابطة، هذه الشبكة عبارة عن حواسيب تعمل بشكل متواصل لحل مسائل رياضية معقدة من أجل ربط السلاسل وتأمين الشبكة.

حل هذه المعادلات يحتاج لأجهزة متطورة ويستهلك الكثير من الطاقة، ولذلك فإن برنامج البيتكوين يقوم بإضافة عدد محدد من البيتكوينات – يقل مع السنوات – إلى المعروض الكلي للبيتكوين بحيث تذهب هذه البيتكوينات الجديدة لأعضاء الشبكة كمقابل لعملهم على تأمين الشبكة.

كل حاسوب يحاول أن يكون أول من يحل المسألة المتعلقة بتشفير الكتلة التالية في السلسلة، والفائز يحصل على مكافأة عبارة عن عدد محدد من البيتكوين. هذه العملية، التي تسمى “التعدين”، تضمن أن سجل المعاملات آمن وموثوق به، وتمنع أي طرف من التلاعب به.

مصطلح التعدين جاء كتشبيه لعملية استخراج الذهب وتعدينه من المناجم، إذ يبذل الأشخاص جهدا وطاقة على أمل الحصول على شيء نادر وثمين في المقابل، كما هو حال أعضاء الشبكة في البيتكوين.

مقر تعدين للبيتكوين – تقوم الأجهزة بحل معادلات التشفير والمنافسة على إضافة كتل جديدية للسلسلة مقابل بيتكوينات جديدة تضاف لأرصدتها لكل كتلة إضافية

كلما زادت قيمة البيتكوين، زاد عدد الأشخاص المهتمين بالتعدين، مما يزيد من قوة الشبكة ويجعلها أكثر أمانًا وبالتالي يزيد من قيمة البيتكوين، وهكذا.

بالطبع، عملية التعدين تستهلك كميات كبيرة من الطاقة وتتطلب أجهزة متخصصة، ولها حسابات معقدة علينا أن نفهمها حتى نتمكن من التعامل مع البيتكوين بطريقة صحيحة تضمن لنا أمان عملاتنا، وهذا أحد الجوانب التي سنناقشها بالتفصيل في مقالات قادمة.

Previous Article

البيتكوين - ثورة في عالم المال

Next Article

هل نستطيع الوثوق بالنظام المالي؟ نظرة على مستقبل العملات الورقية

Write a Comment

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *